كان أوّل عهد أحمد مرسي بالفنون البصريّة أثناء تلقّيه دروسًا في الرسم التصويري والتلوين على يد فنّانين أجانب كانوا يقيمون في الإسكندريّة. وكانت الإسكندرية حينها، أي في بدايات القرن العشرين، تفتقر إلى كليّة للفنون على غرار كليّة الفنون الجميلة في القاهرة. في الأربعينيّات، تتلمذ مرسي في رسم التماثيل الكلاسيكيّة على يد الفنّان الإيطالي سيلفيو بيكي، ابن أوتورينو بيكي الذي درب الفنّانين سيف وأدهم وانلي. وتعرّف مرسي إلى الأخوين وانلي في العام 1949 عندما أسّس مرسمه الخاص في الإسكندريّة عن طريق أحمد فهمي مدرّسه للغة الإنجليزيّة.
انتمى مرسي إلى ما يسمّى "مدرسة الإسكندريّة" التي قالت عنها الباحثة الأدبيّة هالة حليم أنّها شكّلت منبت النشاط الفنّي السريالي في الإسكندريّة إبّان الحرب العالميّة الثانية. وكان الروائي والناقد المصري إدوار الخرّاط (1926-2015) أوّل من أطلق تسمية "مدرسة الإسكندريّة" على مجموعة الفنّانين والفنّانات الذين شبّوا في مدينة الإسكندريّة في فترة الأربيعينيّات. ويعتبر الخرّاط أن أحمد مرسي احتلّ كشاعر ورسّام مكانة تضاهي مكانة المؤلّف منير رمزي بالنسبة إلى "مدرسة الإسكندريّة". ولاحقًا، تعرّف الخرّاط إلى مرسي أثناء عملهما في شركة تعنى بحقوق النشر في الإسكندريّة ونشأت بينهما صداقة متينة استمرّت إلى حين وفاة الأوّل.
جمع مرسي بين ممارسته الفنيّة ودراسة الإنجليزيّة في جامعة الإسكندريّة في الخمسينيّات من القرن الماضي، فتخرّج منها مجازًا في العام 1954 الذي شهد أيضًا صدور أوّل ديوان شعريّ له بعنوان "Songs of the Temples/Steps in Darkness" (أغاني المحاريب/خطوات في العتمة) (1949). أصدر مرسي تسعة دواوين شعرية من بينها "أغاني المحاريب" (1949) ، وصمّم رسومات الغلاف لروايات الخرّاط وغيره من الأدباء المصريّين البارزين. وهنالك كتاب غير منشور يعود للعام 1958 يتضمّن أشعارًا من تأليف مرسي إلى جانب رسومات للفنّان المصري عبد الهادي الجزّار (1925-1966).
تعرّف أحمد مرسي إلى عالم النقد الفنّي أثناء رحلاته وزياراته إلى البلدان العربيّة الأخرى. وحين انتقل إلى بغداد في العام 1955، عمل مرسي مدرّسًا للغة الإنجليزيّة ليؤمّن معيشته خلال إقامته التي امتدّت سنتين. وما لبث أن انضمّ إلى الوسط الفنّي والأدبي المزدهر هناك حيث دعاه المؤلّف المسرحي العراقي يوسف العاني (1927-2016) إلى كتابة مراجعة فنّيّة لصحيفة "الأخبار" عن أحد المعارض ساهمت لاحقًا في جذب الاهتمام النقديّ إلى أعمال الفنّانين الناشئين.
ومع عودته إلى الإسكندريّة في العام 1957، اجتمع مرسي مجدّدًا بأحد أعضاء "مدرسة الإسكندريّة" المؤلّف المسرحي المصري ألفريد فرج (1929-2005). ومن ثمّ انتقل فرج إلى القاهرة فتبعه فيما بعد كلّ من مرسي والخرّاط. وهناك عاون مرسي فرج في إنتاج مسرحيّة الأخير "سقوط فرعون" في المسرح القومي (الأزبكيّة سابقًا) في العام 1957. بذلك أصبح مرسي أوّل مصريّ يتولّى تصميم الديكور المسرحي والأزياء المسرحيّة مستلهمًا زي الفرعون من التحف والرسومات المعروضة في المتحف المصري. وتولّى مرسي لاحقًا مشروع تصميم مسرحيّة "مأساة جميلة" (1962) للمؤلّف عبد الرحمن الشرقاوي التي كرّمت المناضلة الوطنيّة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسي جميلة بوحيرد. كما عمل مرسي إلى جانب الجزّار في دار الأوبرا بالقاهرة على تصميم ديكور مسرحيّة بعنوان "إدفنوا الموتى" للكاتب الأميركي إروين شو.
انكبّ مرسي في مرحلة الخمسينيّات والستّينيّات على المساهمة في تطوير لغة نقديّة عربيّة ومدّ جسور لغويّة بين القراءات الشعريّة الوافدة من أنحاء العالم. فترجم مع الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي (1926-1999) في أواخر الخمسينيّات أعمالًا لكل من لويس أراغون وبول إلوار. وفي العام 1968، ساهم مرسي في تأسيس مجلّة "جاليري 68" الطليعيّة إلى جانب الخرّاط وابراهيم منصور وجميل عطيّة وسيّد حجاب وترأّس تحريرها. إلى ذلك، كتب أحمد مرسي أبوابًا عن "الفن في مصر" و"الفن في العراق" باللغة الفرنسيّة لموسوعة جران لاروس إضافة إلى مقالات في النقد وترجمات للشعر الأميركي المعاصر للمركز القومي للترجمة في مصر. وعندما حصلت زوجته أماني فهمي على وظيفة مترجمة في العام 1974، انتقل مرسي مع عائلته إلى نيويورك. هناك، تدرّجت فهمي حتّى أصبحت تشغل منصب مديرة دائرة الترجمة العربية في الأمم المتّحدة وترجمت المقدّمة الإنجليزيّة لكتاب عن الشاعر السكندري الشهير قنسطنطين كفافيس إلى العربيّة في حين قام مرسي بترجمة قصائده. وفي السبعينيّات والثمانينيّات، استغلّ مرسي وقته متنقّلًا بين مصر والولايات المتّحدة الأميركيّة في نشر كتاباته في النقد الفنّي في عدد من الدوريّات المصريّة واللبنانيّة والكويتيّة البارزة كصحيفتي الوطن والحياة.
تشمل أعمال مرسي البصريّة الأخيرة التصوير الفوتوغرافيّ حيث يعمد إلى التقاط صور المارّة بجانب شخوص منحوتة وموزّعة في مواقع مختلفة من مدينة نيويورك. وتستكشف هذه الصور العفويّة طبيعة الواقع الإنساني والعزلة وسط التجمعّات المدينيّة من خلال التقاط اللحظات المتعاقبة من التجمهر والانزواء. ويواصل مرسي عرض أعماله في كل من الولايات المتّحدة الأميركيّة والشرق الأوسط وأوروبا ومصر ويحتفظ بمكانته كشخصيّة بارزة في الأوساط الفنّيّة المعاصرة في القاهرة.
التحليل الشكلاني وأثر أحمد مرسي في عالم الفن
انشغل أحمد مرسي منذ بدايات مسيرته الفنّية بالقضايا الكبرى المطروحة في مصر حول مكانة المصريّين العاديّين في الثقافة والسياسة. وتشير أحجام الشخوص ومواضعها الرئيسيّة في لوحة "The Fishermen" (الصيّادون) (1956) إلى مقاربة الفنّان الحميميّة والشاعريّة لأبطاله أبناء البلد، كما تعكس الاهتمام المتعاظم الذي أخد الفنّانون المصريّون في تلك الحقبة يولونه للتفاصيل اليوميّة في حياة الفلّاحين وأبناء الطبقة العاملة المدينيّة. وتتناول الفنّانة والناقدة ليليان كرنوك موضوعات مماثلة في أعمال الجزّار باعتبارها أحد النماذج المبكرة للأسلوب "الشعبي الواقعي" في مصر الأربعينيّات.
أدّى مرسي دورًا جليلًا في مزاوجة الممارسات البصريّة والأدبيّة في العالم الناطق بالعربيّة. وفي وقت لا تزال الدراسات حول الفن العربي الحديث مستجدّة نسبيًّا، يدور أحد أبرز النقاشات التي تتضمّنها هذه الدراسات حول أهميّة كل من العبارة المكتوبة والتصوير المجازي في تحديد ماهيّة الفن العربي الحديث. ويعتبر مرسي الذي اتّسم بمقارباته الحيويّة للتلوين الزيتي وتصميم الكتب والشعر في آن واحدًا من الفنّانين القلائل في المنطقة اليوم الذين تمكّنوا من تحقيق التقارب والتجاذب بين البصري والنصّي. ويَعتبر المقيّم الفنّي سام بردويل هذا التوجّه في الممارسات الفنّيّة المصريّة المبكرة نتاجًا لحركة سرياليّة ذات خصوصيّة محليّة. من ناحيته، يطلق أحمد مرسي على أعماله النثريّة تسمية "الشعر الرمزي" تأثرًا بالشعر الفرنسي في حقبة الخمسينيّات وبأعمال الشاعر الأميركي ويليام بليك على حد تعبيره. وتشهد الشخصيّات في لوحة "The Family" (العائلة) من العام 1969 على استمرار انشغال مرسي طيلة حياته بالرمزيّة والفن السرياليّ في مصر. ويؤكّد الشاعر والناقد الثقافي أحمد عبد المعطي حجازي على السمات السرياليّة في أعمال مرسي المعاصرة من خلال الإشارة إلى المناشئ اللاواعية للعناصر التصويريّة.
إلى جانب تأثيره في الحركة السرياليّة المصريّة، كان لمرسي أثر مهمّ في مجال النقد الفنّي في الشرق الأوسط إذا ساهم في إشعال النقاشات والمناظرات على صفحات الدوريّات العربيّة حول قيمة الفن البصري ومعانيه. وقد ألّف ونشر أوّل كتاب باللغة العربيّة عن بابلو بيكاسو في العام 1966 بعد مرور أقلّ من عشرين سنة على تعرّفه إلى أعمال الفنّان من خلال معرض له أقيم في الإسكندريّة. كما ساهمت أعماله الترجميّة بتعريف الأوروبيّين إلى التواريخ المحليّة والإقليميّة للفن العربي الحديث من خلال كتاباته في الموسوعات الفرنسيّة ما عزز الروابط والجسور الثقافيّة بين النقّاد ومؤرّخي الفن والفنًانين في العالم.
صدر لمرسى ديوانه الأول عام 1949 بعنوان "أغاني المحاريب/ خطوات في الظلام" ولم يكن قد تجاوز عمره 19 عاماً، لكنه ظل متأرجحاً بين كتابة الشعر، والرسم، وممارسة النقد الفني، وهي موهبة أخرى أطلق لها العنان أثناء فترة عمله في العراق في منتصف الخمسينيات، إذ تشكلت نهضة فكرية وثقافية، وتحولت مدينة بغداد إلى مركز للفنانين والكتاب العراقيين، من بينهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، والروائي فؤاد التكرلي، والفنان أردش كاكافيان، وكان مرسي في تلك الفترة يكتب المقالات النقدية في العديد من الصحف والمجلات الثقافية العراقية.
عاد مرسي إلى مصر عام 1957 واستقر بالقاهرة، حيث باشر نشاطه الفني المتنوع، فلم يكتف بالكتابة والرسم فقط، بل ساهم في تصميم ديكور وأزياء عدد من الأعمال المسرحية التي قدمت على المسرح القومي ودار الأوبرا الخديوية، وشارك مع عبد الهادي الجزار كتاباً شعرياً احتوى رسومات للجزار، وقصائد لمرسي، لكن لم يصدر الكتاب بعد وفاة الجزار المفاجئة.
وساهم مرسي مع إدوارد الخراط، وإبراهيم منصور، وجميل عطية وسيد حجاب، وآخرين في تأسيس مجلة "جاليري 68" الطليعية لتشكل صوت الحداثة المصرية الجديدة.