محاضرة عن جذور الشخصية المصرية بالأعلى للثقافة
أقام المجلس الأعلى للثقافة بأمانة الدكتور هشام عزمى مساء أمس الخميس الموافق 27-8-2020، محاضرة بعنوان: (جذور الشخصية المصرية)، نظمتها لجنة الجغرافيا والبيئة، وألقاها مقرر اللجنة الدكتور السيد الحسينى، وأدار النقاش الدكتور عبد المسيح سمعان عضو اللجنة، وشهدت الجلسة تطبيق الإجراءات الاحترازية للوقاية والحد من انتشار وباء كورونا، ومن ضمنها التباعد بين الحضور، كما تم بثها عبر شبكة الإنترنت بواسطة القناة التابعة للمجلس بموقع "يوتيوب"؛ بهدف تيسير متابعة فعاليات المجلس الثقافية بشكل أكبر للجميع.
بداية تحدث الدكتور السيد الحسينى، مشيرًا إلى أنه يمكن النظر إلى الجغرافيا باعتبارها تشمل ثلاثة عناصر أساسية وهى:
أولًا: الإنسان و هو حجر الزاوية فى الدراسة الجغرافية بصفة عامة، والجغرافيا البشرية على وجه الخصوص
ثانيًا: اللاندسكيب الطبيعى “Physical Landscape”، وهو ما خلقه الله على الأرض من موارد طبيعية وثروات اقتصادية.
ثالثًا: اللاندسكيب الحضارى “Cultural Landscape”، وهو المظهر الحضارى المادى الذى صنعه الإنسان، وفقًا لقدراته وغنى الطبيعة المحيطة به أو فقرها، وهو ما يوصف بصناعة الحضارة، فما يجده الإنسان على سطح الأرض فى دولة ما من مظاهر، إنما هو إنعكاس لنتاج التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعية، ثم تابع موضحًا أنه لا شك فى أهمية دور البيئة الطبيعية فى تشكيل الشخصية المصرية (الوطن والمواطن)، وهو ما يعد منذ فجر التاريخ أمرًا حصريًا أصيلًا فى الدراسة الجغرافية (الإنسان والبيئة)؛ ثم أكد أن خير من كتب من الجغرافيين عن شخصية مصر هو الدكتور جمال حمدان فى كتابة المصغر عن (شخصية مصر - دراسة في عبقرية المكان) الذى صدر عام 1970، وأعقبه بموسوعته الرائعة بنفس العنوان وتتكون من أربعة مجلدات، والتى صدر آخر مجلداتها عم 1984، وتعد - بحق - أفضل موسوعة منذ صدرت موسوعة وصف مصر 1804 التى أعدها علماء الحملة الفرنسية على مصر.
ثم تابع الدكتور الحسينى كلمته حول جذور الشخصية المصرية من منظور جغرافى، مشيرًا إلى أنه من حيث الموقع والموضع؛ فتقع مصر جغرافيا فى قلب العالم العربى، وتقف بقدميها فى أفريقيا، وهى واحدة من دول حوض البحر المتوسط وتواجة أوروبا، هذه الدوائر الثلاث (العربية والأفريقية والمتوسطية) تشكل فى مجموعها انتماء مصر، كما تمتلك مصر سواحل بحرین يبلغ طولها نحو 2400 كم؛ فشمالًا نجد البحر المتوسط يطل على أوروبا، ويصل إلى المحيط الأطلنطى والغرب، وشرقًا نجد البحر الأحمر يصلها بعالم الموسمیات فى جنوب شرق آسيا، أمَّا الموضع فهو إمكانات الدولة وقدراتها أرضًا وسكانًا، وتتحدد قوة الدولة بمساحة أرضها وشكل الدولة وسطحها ومناخها ومواردها الاقتصادية وعدد سكانها وخصائصهم، من حيث التعليم والتكنولوجيا، الصحة، الدين، اللغة، الأقليات، معدل الإعالة، التركيب السكانى، قوة العمل وغيرها، ونوعية المجتمع المدنى ومؤسستها ونظامها السياسى.
ثم سلط الدكتور الحسينى الضوء على إحدى أهم سمات الشخصية المصرية وهى التوحيد والإيمان بالبعث والحساب، مؤكدًا أننا بدأنا التوحيد فى مصر قبل نزول الأديان بزمان، وتحديدًا منذ عصر الملك أمنحتب الرابع (أخناتون) والتحول من أمون إلى أتون، ومعناه رب قرص الشمس كدين عالمى وإله واحد، وإن استرد آمون مكانته فى عصر توت عنخ آمون، ولكن المصريون القدماء منذ أخناتون واصلوا الإيمان بالبعث والعالم الآخر والحساب، وبرعوا فى التخيط لأن الجسد سيعيش به بعد البعث مع رجوع الروح إلي الجسد ، وقد كانت الحضارة الفرعونية طبقة الأساس أو القاعدة لما تلاها من حضارات وثقافات أخرى مثل اليونانية والرومانية والقبطية والاسلامية بعد الفتح العربى و لا يزال هذا قائمًا، فالفلاح المصري المحافظ بطبعه لا يزال حتي عهد قريب ۔ يعيش هو وماشيته في بيوت من الطوب الطين ، ثم روى الحسينى قصة جمعته مع أحد أبناء قنا عام 1965، تؤكد اعتقاده ببعض الأفكار المصرية القديمة مثل البعث.
لذا كان من الطبيعى أن تمتاز شخصية المصرى بالتسامح الدينى وسط هذه البيئة الروحانية الخصبة؛ كما كان أمرًا طبيعيا أن يقبل المصريون على اعتناق الديانات السماوية؛ لأن فكرة التوحيد كما سبقت الإشارة كانت مترسخة بعمق فى وجدان الشعب المصرى قبل نشأة الأديان السماوية، ومن ثم أدى دخول الديانات السماوية إلى مصر إلى طبع سمات شعب مصر وتشكيل وجدانه وثقافته ولغته، وخلق هذا واقع قوامه التدين والتسامح الدينى والضمير الذى جعل مصر تقبل على الديانات السماوية الثلاث دون صراع، وليس غريبا أن مصر أضافت إلى المسيحية الرهبنة، ومن بعدها أضافت إلى الإسلام التصوف، وأضاف مشيرًا إلى أن اللغة هى وعاء الثقافة والعلوم والفنون والآداب، وتشكل وجدان الشعوب، وكما هو واضح فإن اللغة العربية هى القاعدة والأساس وهى لغة القرآن الكريم الذى يدين به غالبية الشعب المصرى، ولا يخرج عن هذه القاعدة سوى بقع صغيرة، لكنها تعرف العربية أيضًا بقدر إتقانها للغتهم المحلية مثل النوبية بالنوبة جنوب مصر، وكذلك بعض أبناء واحة سيوة الذين يتحدثون الأمازيغية، على عكس دولة مثل الهند فنجد بها عشرات اللغات واللهجات؛ مما جعلها تستعير اللغة الانجليزية لتكون لغة البلاد الرسمية.
وفى مختتم كلمته أكد الدكتور السيد الحسينى أن ثوابت الشخصية المصرية تتجلى فى أبهى صورها مع الأحداث الجسيمة والتحديات الكبيرة التى تشهدها البلاد، وأفضل مثال على ذلك أنه خلال حرب أكتوبر، لم تسجل أقسام الشرطة بلاغًا واحدًا - وفى ثورة يونيو ضد الإخوان مؤخرًا لم تتعرض الممتلكات العامة أو الخاصة لأى ضرر من أى نوع، مما يدعو إلى الاطمئنان والتفاؤل بالمستقبل.
ثم عقب مدير النقاش الدكتور عبد المسيح سمعان، على ما قدمه الدكتور السيد الحسينى بتوجيه التحية له على هذا الشرح التفصيلى المستفيض، ثم قام بتوجيه التحية كذلك للحضور كافة، وأكد أن موضوع المحاضرة له أهمية كبيرة تتمثل فى غنى الشخصية المصرية بالعديد من الروافد الحضارية العريقة.