عقد المجلس الأعلى للثقافة أولى جلسات ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي: "الشعر وثقافة العصر"، وذلك تحت رعاية الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة، والدكتور هشام عزمي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وقد عقدت الجلسة البحثية الأولى عقب انتهاء مراسم افتتاح الملتقى بالمسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، وشارك فيها نخبة من أساتذة النقد الأدبي، وهم: من تونس الدكتور عبد السلام المسدي، ومن العراق الدكتور ياسين النصير، ومن مصر الناقد الدكتور خيري دومة والدكتور طارق النعمان والدكتور عبد الرحيم الكردي، وأدار النقاش الدكتور جابر عصفور، وقد شهدت الجلسة حضورًا جماهيريًّا كبيرًا.
تحدث الناقد الأدبي التونسي الدكتور عبد السلام المسدي في مستهل الجلسة، مستعرضًا ورقته البحثية التي جاءت تحت عنوان: "الشعر وتحديات الزمن الجديد"، وأوضح أنها تنطلق من إدراج الملتقى ضمن سياقه التاريخي والثقافي، وذلك منذ "المهرجان الأول للشعر العربي" الذي نظمته الهيئة العامة لقصور الثقافة في شهر أكتوبر 1993، وكان موضوعه "الشعر ومتغيرات العصر"، ثم مهرجان القاهرة للشعر العربي في شهر نوفمبر 1999 وقد نظمه المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان "آفاق الشعر العربي المعاصر"، ثم كان الملتقى الدولي الثاني للشعر العربي في مارس 2009، ثم تطرَّق في بحثه إلى علاقة الشاعر بالسياسة - بحكم أنه معنيٌّ بالحرية - ليتحدَّد مدى انخراط الشاعر في ميثاق المثقف العضوي ما دام ناطقًا باسم الضمائر في لحظة سعادتها وفي لحظات شقائها، كما أوضح أن البحث تناول كذلك العلاقة الجدلية بين الشاعر ورجل السياسة مُحللًا إشكالية المعادلة في مدى احتياج كل واحد منهما للآخر، سواء بحكم الاختيار أو بحكم الاضطرار. وفي مختتم كلمته أشار إلى ما يتسرَّب إلى ثقافتنا الراهنة من الإرث الذي حدَّد الفن القولي في الحضارة العربية، انطلاقًا من أن المدح هو أبو الأغراض الشعرية، ليخلص إلى استخلاص القيم التي تجمع أطراف ملتقيات الشعر العربي في صياغتها الدولية على أساس مقاييس النقد الحديث وفقًا لثنائية بنية الشعر ووظيفته.
ثم جاءت كلمة الناقد الأدبي العراقي الدكتور ياسين النصير، الذي حملت مشاركته البحثية عنوان: "نحو حركة ثانية لقصيدة الحداثة"، والتي أوضح خلالها أن الحركة الشعرية التي انبثقت في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، لم تبقَ ضمن أشكالها التعبيرية الأولى؛ فقد جرت عليها تغييرات جذرية في بنية الشكل والمحتوى، مكَّنتها من أن تبتدع أشكالًا شعرية جديدة، من بينها البنية الدرامية كما في شعرية صلاح عبد الصبور، ومنها الشكل المدور للقصيدة الحديثة كما في شعرية حسب الشيخ جعفر، ومن الأشكال الجديدة استثمار البعد الأسطوري والمثيولوجي، كما عند الشاعر محمد عفيفي مطر وشعراء آخرين، ومن الأشكال الجديدة قصيدة "غير اليومي والمألوف" كما عند الشاعر سعدي يوسف، ومنها قصيدة النثر بأشكالها كما عند أدونيس ومحمد الماغوط، بالإضافة إلى أشكال شعرية عديدة رصدها في كتابه "شعرية الحداثة"، كقصيدة "الكولاج"، و"القصيدة الكونكريتية"، وقصيدة "الصرخة"، وغيرها من الأشكال الشعرية التي طوَّرت قصيدة الحركة الأولى للحداثة ونقلتها من الموضوع المباشر إلى الموضوع الإنساني بأبعاده الثقافية والفلسفية والتنويرية والإنسانية.
عقب ذلك تحدث الناقد الأدبي المصري الدكتور عبد الرحيم الكردي، الذي جاءت مشاركته البحثية تحت عنوان: "الأبعاد الأسطورية للصورة الشعرية بين السياب ومحمود حسن إسماعيل"؛ حيث أوضح أن القارئ لشعريهما سيجد بينهما تشابهًا كبيرًا، من حيث المعجم الشعري والرؤية، وبخاصةٍ التشابه في طبيعة المناجم السحرية القروية التي استخرجت منها معادن الصورة الشعرية، واختتم مؤكدًا أن القرية عند كلا الشاعرين ليست مجرد مجموعة من المباني والأكواخ، بل هي العجينة الأسطورية التي صاغا من ثقافتها صورهما الشعرية، حتى في تعبيرهم عن المدينة؛ فأهل القرية في كل من ريف مصر والعراق شعراء حالمون بالفطرة، يتوحَّدون مع الطبيعة توحدًا أسطوريًّا؛ فهم يتعاملون مع النهر على أنه كائن حي ينام ويستيقظ، ومع الساقية على أنها امرأة، ومع النخلة على أنها امرأة تنشر ضفائرها لذلك نجد السياب يصور النخيل سكارى، والموج يغني، والصفصافة مخضوبة الرأس بالسنا، ونرى محمود حسن إسماعيل يصور النخلة في الريف صوفية تقية وفي المدينة ملحدة، ويسمع ما قالت الريح للنخيل، ويرى القيظ وهو يقعي على أسوار البيوت، والسواقي قيثارة حزينة تنوح ولها دموع، ويصور النعش بزورق الموت، والفراشة راهبة الضحى، والغراب راهب الليل، والهلال الأحدب النشوان، والديك مؤذن الفجر، والفتاة القروية عروس النيل، والبومة شيخة عابسة، وجميعها صور لا تشبه الصور الرومانسية التقليدية التي يضفي الشاعر فيها قبسًا من خياله على الطبيعة ، بل إن المادة الأولية لهذا النوع من الصور ليست الكلمات، بل الرؤى الأسطورية الوليدة لثقافة الشاعرين.
فيما دارت كلمة الدكتور طارق النعمان حول مضمون ورقته البحثية، التي حملت عنوان: "مرثية لاعب سيرك" و"الخواجة لامبو" - قراءة مقارنة؛ حيث أوضح أن الورقة هذه تمثل محاولة لقراءة مقارنة بين كل من قصيدتي: "مرثية لاعب سيرك" للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، و"الخواجة لامبو" للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، وما بينهما من ثيمات مشتركة وكيفيات تجسيد وتجلي هذه الثيمات في كل قصيدة منهما، ودلالة ما يوجد بينهما من تقاطعات على مستوى زمن إنتاج كل منهما، ودلالة ما يوجد بينهما من اختلاف على مستوى طبيعة رؤية العالم لدى كلا الشاعرين، ذلك أنه على الرغم مما يوجد بين القصيدتين من ثيمات مشتركة فإن كيفيات حضور هذه الثيمات واشتغالها تتباين تباينا لافتًا في كل نص من النصين، بما ينعكس على طبيعة رؤية العالم في كل منهما.
ختامًا تحدث الناقد الأدبي الدكتور خيري دومة حول مضمون ورقته البحثية التي جاءت تحت عنوان: الحبيبة / الوطن بين ناجي والسياب قراءة في قصيدتي "في الظلام" و"أنشودة المطر"، مشيرًا إلى أن ناجي نشر قصيدته عام 1942، في مجلة الرسالة بعددها الصادر يوم 18 ديسمبر من ذلك العام، تحت عنوان "ليالي القاهرة"، وجاءت في غمار الحرب العالمية الثانية التي خيَّمت أجواؤها على القاهرة، وبات عنوان القصيدة بعد ذلك عنوانًا للديوان؛ حيث غيَّر ناجي عنوان القصيدة إلى "في الظلام" بعد أن أدخل عليها عدة تعديلات جوهرية، أما قصيدة السياب فقد نشرها في مجلة الآداب البيروتية عام 1954، وصارت هي الأخرى عنوانًا لواحد من أهم دواوينه، وفيه نشر القصيدة بعنوانها دون أدنى تغيير، وفي مختتم حديثه أوضح أن كلتا القصيدتين بدأت بخطاب أو نداء يوجهه المتكلم إلى محبوبة خرافية.